الإرث الثقافيّ بوصفه فعلًا مقاومًا | ترجمة

من قرية الخان الأحمر، 2015 | ريمى عيسى

 

العنوان الأصليّ: Heritage as resistance: Young People in Occupied Palestinian Territory are Using their Past to Protect their Future.

المصدر: The Conversation.

ترجمة: علاء سلامة - فٌُسْحَة.

 

"اهتمّي بأن تكوني باحثة من أجل مجتمعك. عليك أن توثّقي أجدادك وحياتهم هنا في هذه القرية قبل الاحتلال. الحقّ إلى جانبك، وعليك أن تثبتي أن لا حقّ للاحتلال بأن يكون هنا. يريد المحتلّون أن يشرّدوكِ. دافعي عن حقّك في أن تبقي هنا من خلال إعطاء الدليل الّذي يوثّق إرثك الثقافيّ".

تعود هذه الكلمات لباحثة في الـ21 من عمرها، من تلال الخليل الجنوبيّة. إنّها كلمات تبشّر بخلق شكل جديد من المقاومة الّذي من الممكن أن يحمي المجتمعات المستضعفة.

قرية «الخان الأحمر» البدويّة في الضفّة الغربيّة معرّضة في أيّ لحظة للهدم بالبلدوزرات العسكريّة الإسرائيليّة. دعا منسّق «الأمم المتّحدة» الخاصّ بالسلام في الشرق الأوسط، نيكولاي ملادينوف، السلطات الإسرائيليّة عام 2018 إلى وقف الهدم، واعتبر «مكتب الأمم المتّحدة لحقوق الإنسان» مخطّط الهدم الإسرائيليّ مخالفًا للقانون الدوليّ الإنسانيّ، لكنّ «المحكمة الإسرائيليّة العليا» تحدّت «الأمم المتّحدة» مرّتين لصالح هدم القرية الفلسطينيّة. مصير «الخان الأحمر» الآن على حافّة سكّين.

تسلّط قضيّة «الخان الأحمر» الضوء على الحياة غير المستقرّة الّتي تُجْبِر المجتمعات البدويّة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة على العيش فيها، مهمّشين في المجتمع الإسرائيليّ والفلسطينيّ، ومهجّرين مرّة إثر مرّة من أراضيهم - بدو «الخان الأحمر»، على سبيل المثال، هُجِّروا من صحراء النقب عام 1948 - تحارب هذه المجتمعات دفاعًا عن نفسها من أجل البقاء.

 

فعل تذكّر

ولكن، ربّما لمّا نخسر كلّ شيء بعد. عدد من الباحثين والباحثات في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة يطوّرون طرقًا جديدة مبدعة وغير عنيفة؛ من أجل مساعدة هذه المجتمعات على البقاء من خلال استعادة إرثهم الثقافيّ.

يقول الأكاديميّ والكاتب الفلسطينيّ إدوارد سعيد: "ما يتذكّره المرء من ماضيه، وكيف يتذكّره، يحدّد كيف يرى مستقبله".

يأمل الباحثون أنّهم من خلال الاهتمام بإرث مجتمعاتهم الثقافيّ، ستكون هذه المجتمعات في موضع أقوى لمقاومة التهجير من أراضيها. شباب وشابّات أعمارهم بين الثامنة عشرة والسادسة والعشرين، أخذوا على عاتقهم توثيق حتّى ما لا يمكن لمسه من إرث مجتمعاتهم الثقافيّ. القرى البدويّة تكون أحيانًا صغيرة إلى حدّ أنّ موظّفين حكوميّين في الخليل القريبة لم يسمعوا بها قطّ.

هذا التراث يواجه خطر المحو في ظلّ الصراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ المستمرّ. مجتمعات مثل ﺍﻟتوّانة، سوسيا، المفقرة، طوبا، في تلال الخليل الجنوبيّة، يواجهون التهديد بالتهجير، بينما تستمرّ المستوطنات الإسرائيليّة غير الشرعيّة في التعدّي على أراضيهم بحماية الجيش الإسرائيليّ. الحياة صعبة، والسكّان محرومون من الوصول إلى أبسط احتياجاتهم الأساسيّة؛ بسبب العراقيل الّتي يضعها الجيش الإسرائيليّ في طريقهم.

عند الأخذ بالحسبان كلّ ما يلاقونه من مصاعب يوميّة، من غير المفاجئ أن يأخذ الحفاظ على التراث مقعدًا خلفيًّا ضمن أولوليّات هذه المجتمعات، لكنّ هؤلاء الباحثين والباحثات الشباب جمعوا أدلّة على أغانٍ كانت تُغَنّى أثناء حراثة الأرض أو في حفلات الزفاف، والأسماء التراثيّة التقليديّة للمناطق المحيطة، والممارسات الزراعيّة والحرفيّة. جمعوا قصصًا ووصفات طعام وأكثر من ذلك بكثير؛ ممّا يربط ماضي هذه المجتمعات بأراضيها. واستخدموا هذه القصاصات من أجل تطوير مسيرات تراثيّة ومعارض وخطوط إرشاد في مجتمعاتهم.

لطالما كان هؤلاء الشباب والشابّات فاعلين وفاعلات في مبادرات لدعم مجتمعاتهم، لكنّها المرّة الأولى الّتي يأخذون فيها المقاربة الثقافيّة هذه. يقول واحد من الباحثين من أهل ﺍﻟتوّانة: "تكمن أهمّيّة التراث على صعيد سياسيّ في أنّه يساعدنا على إثبات حقّنا بأرضنا، إنّه يثبت أنّنا نملكها وأنّنا لطالما عشنا عليها".

 

المخاطر

أهل المجتمعات البدويّة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة يعرفون تمام المعرفة خطر خسارة إرثهم الثقافيّ. يخيفهم أنّ خسارة إرثهم الثقافيّ ستعطي الحكومة الإسرائيليّة مبرّرات إضافيّة من أجل تهجيرهم عن أرضهم. إنّهم يفهمون أنّ لهذا الإرث الثقافيّ قيمتين؛ قيمة مادّيّة، قد توفّر مصادر دخل قيّمة تحتاج إليها مجتمعاتهم المستضعفة، وقيمة اجتماعيّة؛ فهو يحافظ على الروابط بين هذه المجتمعات الّتي شُتِّتت حدّ التفكّك.

تجد المجتمعات البدويّة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة نفسها مفصولة عن بعضها بعضًا بسبب النزاع. إنّهم ممنوعون من ممارسة عاداتهم الثقافيّة التقليديّة، وكذلك من مشاركة معرفتهم بها مع الأجيال القادمة، حتّى كبار السنّ مفصولون عن صغار السنّ.

من خلال إجراء أكثر من 75 مقابلة مع أكبر أعضاء المجتمع سنًّا، استطاع الباحثون والباحثات المساهمة في إعادة وصل هذه الصلات المبتورة، معيدين الحياة إلى العلاقات بين أعضاء المجتمع من كبار السنّ ومن صغاره. سميحة، باحثة شابّة من التوّانة، تحدّثت عن تأثير هذه العمليّة فيها: "عندما تتحدّثين إلى رجل أو امرأة كبيرين في السنّ ومن منطقتك، ويخبرانك بقصّة لم تسمعيها من قبل… بالنسبة إليّ، كان ذلك شعورًا مذهلًا".

الفخر بماضيك، والسعادة بنشر إرث مجتمعك الثقافيّ، فعلًا مقاومة. كذلك، بدأ هؤلاء الباحثون والباحثات بإعادة الروابط بين المجتمعات البدويّة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة وإسرائيل. إنّهم يشاركون أساليبهم في البحث، وما توصّلوا إليه من نتائج، ويتعلّمون من هذه المجتمعات عن تجاربها ومقارباتها الإرثيّة والثقافيّة الخاصّة، الّتي تساهم في نموّها الاقتصاديّ والاجتماعيّ.

هل يمكن هذه المقاربة الثقافيّة أن تساعد أهل «الخان الأحمر»؟ لقد أظهر الباحثون والباحثات كيف يمكن للإرث التراثيّ أن يقوّي المجتمع، وأن يعزّز من روابطه بالأرض الّتي يعيش عليها. يكرّر الباحثون والباحثات رغبتهم في وضع قراهم على الخريطة، في جعلها جزءًا من المجتمع البدويّ الأكبر الّذي يمتدّ عبر المكان وعبر الزمان (نحو الأجيال السابقة والأجيال اللاحقة). لقد أصبحوا مرئيّين بالنسبة إلى جمهور محلّيّ، ووطنيّ، وعالميّ.

كلّ هذا يوفّر منبرًا للتضامن، منه يمكن أن يقاوم الاضطهاد دون عنف. التراث الثقافيّ، والأفعال المأخوذة من أجل حمايته، تصبح مصدرًا لتشجيع المساواة، ومشاركة نظرة جديدة مختلفة عن الحياة الممكنة في هذه المجتمعات المحاصرة.

 


 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من لغات مختلفة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا.